دكتور أحمد راسم النفيس
المنصورة مصر 16/05/2025
يتعرض الإسلام الرسالي المحمدي العلوي لهجمة ضارية تهدف إلى محوه وإلغاء دوره الفاعل في هذا الكون.
الحملة الرامية لاستبعاد الإسلام المحمدي ليست جديدة إلا أن مفرداتها قد تجددت بزوال تلك الدول التي كانت تتلفع بالخلافة وبدأت في استخدام مفردات تبدو وكأنها جديدة مثل الفصل بين الدين والسياسة والهجوم على ما يسمى بالنفوذ الإيراني وتدخلاته في المنطقة من أجل إفساح المجال أمام النفوذ اليهودي الصهيوني.
مضمون هذه الحملة (من حقكم أن تعتنقوا الإسلام لكن ليس من حقكم أن تتدخلوا في إدارة هذا الكون)!!.
يتركز الهجوم على ما يسمى بالإسلام السياسي تارة وعلى ولاية الفقيه تارة ثانية أو على مبدأ التشيع لأهل بيت النبوة ثالثا لكن مضمون الرسالة المعادية هو هو.
لا نريد أن نراكم في محفل إدارة هذا الكون الذي ينبغي أن يبقى تحت إدارتنا حصرا ونحن نحدد من يسمح له بالحضور ومن يتعين عليه البقاء حيث هو إلى أن نتمكن من إزالته بصورة نهائية والإتيان ببديل له يخضع لشروطنا وإملاءاتنا حتى ولو كان مشمولا بعنوان (الإسلام السياسي) مثلما فعلنا في سوريا.
القوم لا يتوقفون طويلا عند العناوين وحتى وصف الإسلام السياسي هو وصف مرن وحمال أوجه فالموصوفون بهذا الوصف ليسوا سواء فمنهم الإرهابي الجولاني الذي سمح له بالتواجد والاستمرار وأداء (صلاة النغال) والتقاط الصور مع ترامب طالما كان هذا نافعا لأمريكا وإسرائيل.
الغرب لا يهمه كثيرا الطريقة التي يعرض بها المسلمون إسلامهم قدر اهتمامه بمدى خضوعهم لإرادته وقطعا هو يفضل الوهابية والوهابيين فهو من صنعهم على عينه وأمدهم بأسباب الانتشار والبقاء.
لهذا السبب صنع الغرب الاستكباري الوهابية فهم جاهزون ومستعدون دوما لتلبية طلباته وتنفيذ أوامره وقد رأينا ذلك مرارا وتكرارا بأم أعيننا وعلى المدى القرنين الماضيين.
نحن لا نفصل بين الديني والسياسي فهذا هو دأب الاستكبار العالمي وأدواته في المنطقة من أدعياء الإسلام أولئك الذين يزعمون أنهم يجاهدون من أجل عقيدة التوحيد فقد رأينا كيف حاربوا التشيع ظنا منهم أنهم يحاربون إيران ويقلصون نفوذها عبر هذياناتهم وسفالاتهم في حين أن إيران اكتفت في أغلب الأحيان ببنائها الداخلي وتطورها العلمي وسعت لمد جسورها مع التيارات العقائدية المتنوعة في العالم الإسلامي أكثر من انشغالها بتوسيع رقعة التشيع.
ما يعنينا نحن هو نظرتنا لما قدمه آية الله روح الله السيد الخميني وخلفه السيد الخامنئي من رؤى ومقاربات للإسلام المحمدي أعادت إليه أصالته ورونقه التي سعى الوهابيون المدججون بأموال النفط ووسائل التضليل الإعلامي للقضاء عليها (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) التوبة 32.
الهجوم على الإسلام المحمدي العلوي والسعي لإسقاطه لم يقتصر على العنوان السياسي فهو منذ البدء كان مسبوقا بالهجوم على العقيدة والعبادات حيث امتدت أيادي التزوير والانحراف إلى كل المحالات ولم يبق لنا هؤلاء الأوباش مساحة إلآ وتلاعبت بها أيادي التخريب والفساد.
من هنا فالولوج إلى مدرسة ولاية الفقيه (الخميني والخامنئي) لا يعني مجرد انتماء سياسي وإنما يعني فهما عميقا للإسلام بأبعاده المختلفة سواء تلك العقائدية أو العبادية أو العرفانية بعيدا عن حالة السطحية والعشوائية التي حكمت سلوك الكثيرين بمن فيهم بعض المنتمين لخط الثورة الإسلامية في إيران.
لم يكن السيد الخميني مجرد قائد سياسي بل عالم رباني وفقيه عالم بالحلال والحرام ومتبحرا في علوم القرآن كما سنعرض في السطور التالية.
الإمام الخميني ترجمانا للقرآن
تقوم مدرسة أهل البيت عليهم السلام على ركيزتين هما القرآن الكريم والعترة الطاهرة التزاما بالوصية النبوية (إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً؛ الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الاَرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض).
الالتزام بالقرآن الكريم هو الركن الأول من أركان التدين لدى شيعة أهل البيت عليهم السلام.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ، وَالْمحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ، وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَة أَوْ نُقْصَان: زِيَادَة فِي هُدىً، أَوْ نُقْصَان مِنْ عَمىً.
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَد بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَة، وَلاَ لأحَد قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً; فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأوَائِكُمْ، فَإنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ، فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إلَى اللهِ بِمِثْلِهِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ[1] بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْه، فَإنَّهُ يُنَادِي مُنَاد يَوْمَ الْقِيَامةِ: أَلاَ إنَّ كُلَّ حَارِث مُبْتَلىً فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ، غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرآنِ; فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلى رِّبِّكُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُم[2].
ويقول عليه السلام: إِنَّ اَلْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ وَلاَ تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ وَلاَ تُكْشَفُ اَلظُّلُمَاتُ إِلاَّ بِهِ[3].
القرآن إذا هو شفاء من كل داء بل من أكبر وأخطر داء وهو داء الكفر والنفاق والغي والضلال فالنفاق مرض يلوث القلوب ويصيبها بالعفن والازدواجية الأخلاقية التي أهلكت الأمم قديما وحديثا.
قارئ القرآن يحرث حقلا شاسعا واسعا للقيم والمبادئ السامية والنفوس التي تشبعت بهذه القيم هي البلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه أما القلوب المظلمة والتربة المجدبة التي لم تحرث فلا تنبت وإن أنبتت فلا تخرج إلا نكدا.
القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا يصل أحد إلى أعماقه إلا الراسخون في العلم وهو بحر رائق متجدد على مدى الأزمان لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف ظلمات الجاهلية القديمة أو المعاصرة إلا به.
هنا تكمن عظمة القرآن باعتباره نبعا للهداية المتواصلة ومن ثم تبدو الحاجة الملحة لإعادة قراءة القرآن بصورة مستمرة ومتجددة دون الاكتفاء بما قدمه الأولون اتفقنا معهم أم لم نتفق.
النقطة التالية تتعلق بطبيعة الخطاب القرآني المتجدد الموجه لكل من يسمعه الآن وقبل الآن.
عندما نقرأ قوله تعالى (يا أيها الإنسان) فالخطاب موجه من دون أدنى شك لكل من دخل في دائرة هذه الخطاب ولا معنى على الإطلاق للقول بأنه موجه لكفار قريش الذين غادروا هذا العالم قبل أكثر من ألف عام.
عندما يتحدث القرآن عن جريمة اجتماعية أو أخلاقية ارتكبها بنو إسرائيل فلا معنى على الإطلاق لقصر الخطاب عليهم لأن الإدانة موجهة إلى الفعل والفاعل ولو تغير الفاعل سيبقى الفعل مدانا.
الثقلان القرآن والعترة
في وصيته التي تركها الإمام الخميني للأمة الإسلامية يقول:
(رأيت من المناسب ذكر اشارة عابرة وقصيرة إلى ما مر على هذين الثقلين. لعل جملة “لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض” إشارة الى أن كل ما جرى على احد هذين – بعد الوجود المقدس لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم – فقد جرى على الآخر. وهجران كل منهما هجران للآخر، الى ان يردا هذان المهجوران على رسول الله الحوض).
(لنر الآن ماذا جرى على كتاب الله، هذه الوديعة الإلهية وأمانة رسول الاسلام صلى اللهَ عليه واله وسلم. إنّ الأمور المؤسفة التي ينبغي ان يبكى لها دما بدأت بعد شهادة الإمام علي عليه السلام. الانانيون واتباع الطاغوت اتخذوا من القرآن وسيلة لإقامة الحكومات المعادية للقرآن. وابعدوا – بالذرائع المختلفة والمؤامرات المعدة سلفا – المفسرين الحقيقيين للقرآن والعارفين بالحقائق، الذين تلقوا كل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، والذين كان نداء : “اني تارك فيكم الثقلين” في آذانهم. وفي الحقيقة فإنهم عملوا على تهميش القرآن بالقرآن، الذي هو أكبر دستور للحياة المعنوية والمادية حتى ورود الحوض وأبطلوا حكومة العدل الالهى التي هي احدى اهداف هذا الكتاب المقدس، وتسببوا بالانحراف عن دين الله والكتاب والسنة الالهية.الى ان وصل الامر بهم الى حد يخجل القلم من إيضاحه.
القرآن دستور للبشرية
وكلما استطال هذا البيان الاعوج ازداد الانحراف والاعوجاج الى حد أن القرآن الكريم – الذي تنزّل من مقام الاحدية الشامخ الى الكشف التامّ المحمدي (ص) لارشاد العالمين ونقطة لجمع كل المسلمين، بل للعائلة البشرية ليوصلها إلى حيث يجب أن تصل ويحرر وليدة علم الاسماء هذه من شر الشياطين والطواغيت، ويحقق القسط والعدل في العالم ويسلم الحكومة بايدي اولياء الله المعصومين عليهم صلوات الاولين والاخرين ليسلموها لمن فيه صلاح البشرية – هذا القرآن تم تحييده وتغييبه عن الساحة كما لو لم يكن تدخل في الهداية.. وبلغ الامر حداً على ايدي الحكومات الجائرة وخبثاء المعممين – الذين هم اسوأ من اتباع الطاغوت – اصبح القرآن معه وسيلة لإقامة الجور والفساد وتبرير (ظلم) الظالمين والمعاندين للحق تعالى. والمؤسف ان القرآن الكريم – وهو الكتاب الصانع للمصير – لم يكن له وإلى الآن على ايدي الاعداء المتآمرين والاصدقاء الجهلة اي وظيفة الا في المقابر وفي مجالس الاموات. الكتاب الذي يجب ان يكون وسيلة لجمع المسلمين والبشرية، وكتاب حياتهم اصبح وسيلة تفرقة واختلاف أو إنه هجر كليا… وقد رأينا كيف انه اذا تلفظ احد بشيء عن الحكومة الاسلامية، وتحدث عن السياسة، فكأنه ارتكب اكبر المعاصي). انتهى النقل.
يرى الإمام روح الله الموسوي الخميني أن تغييب العترة الطاهرة عن الحضور في ساحة الإسلام قاد إلى تغييب القرآن الكريم من الموقع الذي أراده الله عز وجل، موقع الهداية والتوجيه والإرشاد (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[4].
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[5].
كما يشير رضوان الله عليه إلى أن هجر المسلمين للقرآن وإبعاده عن طريق الهداية (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا)[6]، لم يكن حدثا خارج السياق بل جاء كنتيجة طبيعية لإبعاد الثقل الثاني وهم أهل بيت النبوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا من موقع القيادة والإرشاد الذي حددته الوصية النبوية ورسمته للأمة الإسلامية حسب الرواية المشهورة المتواترة التي افتتح بها الإمام الخميني وصيته بها.
كل هذا كان ثمرة مرة للحرب الظالمة التي شنها أعداء النبوة وهم ذاتهم أعداء أهل بيت النبوة بهدف إقصائهم عن موقع الهداية (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)[7].
كيف يكون بين أيدينا نحن أمة الإسلام ذلك المصباح المضيء نور السماوات والأرض ويكون حالنا كالذي يتخبطه الشيطان من المس، نخرج من حفرة لنسقط في أخرى أكثر عمقا حيث (يُعَدُّ الْمُحْسِنُ مُسِيئاً وَيَزْدَادُ الظَّالِمُ عُتُوّاً لَا نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا وَلَا نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا وَلَا نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا)[8].
القرآن الكريم كما وصفه الإمام علي بن أبي طالب خطٌ مسطورٌ لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال وقطعا ليس أي رجال بل رجال الله، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وليس أشباه الرجال ولا رجال!!.
رجال الله وآل الله هم القرآن الناطق، كما أن هذا المسطور بين الدفتين هو القرآن النازل من السماء وأدعية أهل البيت عليهم السلام هي القرآن الصاعد حيث يقول الإمام الخميني في وصيته (نحن فخورون بأن الأدعية التي تهب الحياة والتى تسمى بالقرآن الصاعد هي من أئمتنا. نحن نفخر بالمناجاة الشعبانية ودعاء عرفات للحسين بن علي عليهما السلام والصحيفة السجادية زبور آل محمد والصحيفة الفاطمية ذلك الكتاب الملهم من قبل الله تعالى للزهراء المرضية).
المكانة التي حددها الإرشاد النبوي للثقلين أي الكتاب والعترة هي مكانة القيادة الإلهية التي تأخذ بأيدي الناس وتخرجهم من الظلمات إلى النور وهي مرتبة لا تتوفر إلا لمن تجرد من هواه وآثر طاعة ربه ومولاه كما يقول الإمام علي بن أبي طالب ع وصفا للإمام المهدي المنتظر خاتم الأوصياء (يَعْطِفُ الْهَوَى عَلَى الْهُدَى إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى وَ يَعْطِفُ الرَّأْيَ عَلَى الْقُرْآنِ إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْيِ).
منذ البدء تمحور الصراع حول موقع (الناطق بالقرآن) أو ولاية أمر المؤمنين وهل يكون هذا الموقع متاحا لكل من هب ودب كما أراد الخوارج بالتنسيق والتعاون مع الظلمة الفساق من بني أمية، أم تبقى الولاية والإمرة لمن فضلهم الله واصطفاهم وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا؟!.
النتيجة التي أسفر عنها الجولة الأولى من الصراع يوم الجمل وصفين والنهروان لم تكن قطعا لصالح أهل الحق وما زالت نتائج هذه الجولة غير الحاسمة سارية في دنيا الناس حتى هذه الساعة.
يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام لما واجه الخوارج أدعياء الورع الزائف:
(إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ. وهذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ.
وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللهِ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فَرَدُّهُ إِلَى اللهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ وَرَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بسُنَّتِهِ; فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ حُكمَ بسُنَّةِ رَسُولِهِ فَنَحْنُ أَوْلاَهُمْ بِهِ[9].
الْقُرْآنُ كما يبين لنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ حُكمَ بسُنَّةِ رَسُولِهِ فَنَحْنُ أَوْلاَهُمْ بِهِ.
القرآن لا ينطق بلسان ولا بد من إنسان له عقل ولسان (إمام مبين) يقوم بدور الترجمان يطبق المعنى على الواقع المعاش ويكشف أسراره ويأخذ بأيدي الضالين والتائهين نحو الهداية.
الفارق الجوهري بين الشيعة ومخالفيهم يتمحور حول مواصفات هذا الإنسان فهو عند الشيعة الإمام المعصوم من أئمة أهل البيت عليهم السلام وهو عند غير الشيعة أي إنسان له لسان جمع شيئا من العلم والفقه والبيان!!.
ولأن التفاوت في العلم والإمكانات هو من البديهيات فالمسلمون على اختلاف مذاهبهم يؤمنون بوظيفة ودور العالم والفقيه والمفسر والمحدث عدا فريق واحد هم الخوارج وأحفادهم المعاصرون.
نسمع بين فترة وأخرى من يقول: ليس هناك واسطة بين الخالق والمخلوق وهي (كلمة حق يراد بها باطل).
من ناحية فليس هناك واسطة بين الخالق والمخلوق بمعنى أن الإنسان هو من يتحمل المسئولية الكاملة عن أفعاله أمام الله عز وجل (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى)[10].
هذا في مجال المسئولية عن الإرادة والعمل.
أما في مسئولية الهداية والإرشاد فليس هناك واسطة واحدة بين الخالق والمخلوق بل هناك وسائط هم الملائكة والأنبياء والأئمة والعلماء فالعلماء هم أمناء الرسل وورثة الأنبياء!!.
فكيف يقال إذا أن ليس هناك واسطة بين الخالق والمخلوق في أمور الدين وأن من الممكن لكل من كان أن يقرأ القرآن ويستخرج منه أحكام الحلال والحرام؟!.
أن يكون هناك (علماء) مرتزقة ومنحرفون فهذا ليس أمرا مستحيلا أو مستبعدا وقد حكى لنا القرآن عن (الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[11].
كما حكى عن الذين يكذبون على الله ويكتبون الكتاب بأيديهم (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ)[12], وغيرهم وغيرهم من المنحرفين بالدين عن الدين.
من البديهي أن يكون هناك مؤمنون وكفار ومنافقون يعلنون عكس ما يسرون ويحاولون خداع الناس ومحاربة الدين بالدين وقد تولى القرآن فضحهم وبيان حقيقتهم للناس.
وجود هذه الطبقة الوسيطة بين الخالق والمخلوق الذي تتفاوت قدراته على اكتساب العلم والمعرفة هي من البديهيات المقررة في كتاب الله عز وجل.
(نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)[13].
(وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ)[14].
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)[15].
العالم الحقيقي هو ترجمان للقرآن وكلما ارتقى العالم في مراتب العلم والزهد متأسيا ومتمثلا بأئمة أهل البيت عليهم السلام كلما كان أقدر على ترجمة معاني القرآني وقيمه ووصاياه عملا وبيانا وليس بيانا وحسب، إلى أن يقترب من مرحلة العالم الرباني (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)[16]، التي هي المنزلة الأساس للأئمة المعصومين ع.
في كتاب (الجهاد الأكبر) يقول الإمام الخميني: إن واجبات علماء الدين جسيمة للغاية، وإن مسؤولياتهم أعظم من مسؤوليات سائر الناس, فإذا ما رجعنا إلى (أصول الكافي) وكتاب (الوسائل)، وتصفحنا الأبواب المتعلقة بواجبات علماء الدين فسوف نواجه بواجبات عظيمة ومسؤوليات خطيرة ذكرت لأهل العلم. ففي الحديث: عن جميل بن دراج قال: سمعت أبا عبد الله الصادق يقول: إذا بلغت النفس ههنا (وأشار بيده إلى حلقه) لم يكن للعالم توبة ثم قرأ: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة}. وجاء في حديث آخر: عن حفص بن قياس عن أبي عبد الله (ع)، قال: يا حفص، يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد، لأن معصية العالم تسيء كثيراً للإسلام والمجتمع الإسلامي. فإذا ارتكب العامي والجاهل معصية، فإنه يسيء إلى نفسه فحسب ويضرها. ولكن إذا ما انحرف العالم وارتكب عملاً قبيحاً فإنه سيحرف عالماً، وأسيء إلى الإسلام وعلماء الدين، وأن ما ورد في الحديث من أن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، هو لأنه يوجد فرق كبير في الدنيا بين العالم والجاهل بالنسبة لنفعهم وضررهم للإسلام والمجتمع الإسلامي.
فإذا ما انحرف العالم فمن الممكن أن يضل أمة بأسرها ويجرها إلى الهاوية. وإذا كان مهذباً يراعي الأخلاق والآداب الإسلامية، فإنه يعمل على هداية المجتمع وتهذيبه.
ويقول أيضا: القرآن الكريم أمانة الله الكبرى، والعلماء مؤتمنون عليها، وواجبهم الحفاظ على هذه الأمانة الكبرى وعدم خيانتها.
انتهى النقل.
يقول تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناًّ قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ)[17].
الآية السابقة من سورة المائدة تؤكد على المسئولية الملقاة على عاتق الربانيين والأحبار في حفظ كتاب الله والشهادة على تطبيقه تطبيقا صحيحا وهي مهمة تحتاج إلى رجال من طراز خاص لا يخافون في الله لومة لائم ولا يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا وهي واحدة من السنن الإلهية الحاكمة لمسار الدعوات والرسالات السماوية.
وفي كل هذه الحالات يمكننا القول كما قال الإمام علي بن أبي طالب (إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ) لأن التناقض بين النص القرآني الإلهي والربانيين والأحبار لدى السابقين وأئمة أهل البيت لدى الأمة الإسلامية هو تناقض مصطنع وموهوم!!.
كيف يقال إذا أن بوسعنا العودة إلى النص القرآني دوما بصورة مباشرة من دون حاجة للاطلاع على تطبيقاته العملية وفي المقدمة منها بكل تأكيد التطبيقات النبوية للأحكام الإلهية أي السنة النبوية المشرفة.
الوصية النبوية التي تلقي بعبء الحفاظ على نهج النبوة وإدامته على عاتق أئمة أهل البيت عليهم السلام ليست بدعا وليست خروجا على السنن الإلهية ولا تضيف مصدرا تشريعيا مستقلا قائما بذاته كما زعم الخوارج من قبل وكما يزعم الذين يسمون أنفسهم قرآنيون الآن.
رد الأمر إلى من يحكمون بالصدق هو رد إلى الله ورسوله وهو إنفاذ للوصية الإلهية (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)حكما بكتابه وبسنة نبيه.
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[18].
الصادقون هم الذين يحكمون بالصدق في كتاب الله وهم الأمناء على سنة رسول الله الذين طهرهم الله وأعلى مراتبهم وجعلهم أحرارا في دينهم ودنياهم لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا من حطام الدنيا ولا يخافون في الله لومة لائم.
لو كان الباحثون عن منهج جديد يحرر المسلمين من الوضاعين ومن زمر التأويل الفاسد والمضلل لكتاب الله عز وجل جادين في بحثهم لفتشوا حيث يتعين عليهم البحث والتفتيش عمن تحلوا بتلك الصفات التي ذكرها الله في كتابه.
يقول تعالى:
(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ)[19].
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)[20].
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)[21].
كان المسلمون وما زالوا بحاجة إلى مرجعية دينية عليا تفسر كتاب الله بالصدق وتنقل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله نقلا أمينا ولا تشتري بآيات الله ثمنا قليلا وتنطق بالعدل ولا تميل مع الريح والهوى.
كان المسلمون ولا زالوا بحاجة إلى مرجعية الصادقين الذين لا يقولون على الله إلا الحق.
هذه المرجعية وحدها هي التي يمكن لها أن تفسح المجال أمام حرية العقل والفكر التي لا يمكن لها أن تنفصل عن حرية الإرادة وكرامة الإنسان.
من دون الرجوع إلى هذه المرجعية لن يكون هناك أي جدوى من كل محاولات الإصلاح الموهومة التي يرعى الغرب بعضا منها والتي لن تتجاوز قيمتها سوى إنشاء المزيد من العوالم والدوائر المنفصلة بعضها عن بعض والتي ستقود إلى مزيد من الشتات بدلا من التوحد.
لا ترتبط قيمة الدعوات الإصلاحية بقدر ما فيها من نقاط إيجابية بل بقدرتها على تلبية حاجات الأمة واستنادها على الركائز الإلهية الموجودة منذ أن وجد الدين بدلا من محاولة البحث عن ركائز وأعمدة في الفيافي والبحار كما فعل الإصلاحيون القدامى وكما يفعل الإصلاحيون الجدد!!.
ورغم أن الفوضوية السلطوية التي وضعت بصماتها القبيحة على مدارس الفكر والفقه الإسلامي أرادت إيجاد طبقة من العلماء والمحدثين كبديل عن العلماء الربانيين فجعلت الإسلام ممثلا في (الله والبخاري) بدلا من الكتاب والسنة الحقيقية إلا أن هذا لا يبرر الانتقال إلى خوراجية جديدة ترفع شعار القرآن وحده (وكل ما عدا ذلك إلى مزبلة التاريخ) أو الدعوة إلى (إعادة كتابة القرآن وفقا للتسلسل التاريخي) كما يقول نصر حامد أبو زيد ولا تلغي الحاجة للعلماء الربانيين وعلى قمتهم أئمة أهل البيت.
الربانية تعني توحد الروح الإلهية الكامنة في النفس البشرية مع العقل البشري فلا تريد النفس الصافية التي روقت من الكدر غير ما يريده الله ولا تحكم بغير مراد الله عز وجل.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: أَيُّهَا النَّاسُ، اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاح وَاعِظ مُتَّعِظ، وَامْتَاحُوا مِنْ صَفْوِ عَيْن قَدْ رُوِّقَتْ مِنَ الْكَدَرِ[22].
ويقول تعالى:
(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ)[23].
البلوغ إلى مرتبة الإنسان الكامل, مرتبة الحجة على العالمين لا يمكن أن يكون عملا كسبيا بل هو اصطفاء إلهي كما أن العلم وحده لا يكفي صاحبه لبلوغ مراقي الكمال حيث يتعين أن يتحرر الإنسان تحررا كاملا من الهوى وأن يكون لديه الملكات الأخلاقية والنفسية والوراثية التي تؤهله لبلوغ هذا المقام.
(وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُّبِينٌ)[24].
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)[25].
الإنسان الرباني هو رجل من رجال الله الذي وصفهم ربنا عز وجل بقوله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[26].
وقوله عز من قائل (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[27].
البشرية هي القاسم المشترك بين أولياء الله على اختلاف درجاتهم وتفاوت مراتبهم بدءا من القمة حيث المكانة السامقة للأئمة المعصومين الذين لا يمكن لهم أن أن يؤدوا دورهم ما لم يحط بهم تلك الحلقة الضيقة من الخُلص من العظماء المضحين الواعين.
لم يكن الدور الذي قام به أولئك الخُلص قاصرا على مرحلة دون أخرى ولا شك أن التاريخ يتكون من حلقات يكمل بعضها بعضا بدءا من عمار وسلمان وأبي ذر ومالك الأشتر وصولا إلى الخميني العظيم الذي غير مسار التاريخ المعاصر ونجح في نقل المسلمين دونما استثناء من حالة رد الفعل إلى حالة الفعل الإيجابي والمساهمة في صنع الحاضر والمستقبل.
الذين عطفوا الهدى على الهوى وجعلوا النص القرآني تابعا لأهوائهم وأغراضهم المريضة والمنحطة نجحوا في (تحييد كتاب الله وتغييبه عن الساحة كما لو لم يكن له تدخل في الهداية.. وبلغ الامر حداً على ايدي الحكومات الجائرة وخبثاء المعممين – الذين هم اسوأ من اتباع الطاغوت – أصبح القرآن معه وسيلة لإقامة الجور والفساد وتبرير (ظلم) الظالمين والمعاندين للحق تعالى). وصية الإمام الخميني.
استمرت هذه اللعبة قرونا عديدة وكسب أعداء الله، أعداء الثقلين عدة جولات في هذا الصراع المرير الطويل بين الحق والباطل، حتى جاء هذا الرجل البسيط ليقلب الطاولة التي ظنها البعض عرشا أبديا وملكا سرمديا ويرسي معالم دولة تستند في أسسها ودستورها للقرآن الكريم وتعيد لقادة الأمة الحقيقيين من غير الدجاجلة المزيفين اعتبارهم ومكانتهم التي أرادها رب العزة سبحانه عندما أرسل رسوله وأنزل معه القرآن (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[28].
الحديد هو القوة المادية الضرورية لحفظ الحق وأهله وهو يرمز للدولة التي يتعين أن تكون بيد حكيمة مبصرة عارفة بالحق حريصة على إقامة العدل وإنفاذه في الأرض وهي المهمة التي اضطلع بها روح الله الموسوي الخميني وقام بها على خير وجه.
الحديد هو القوة التي ألانها الله لداود عليه السلام (وألنا له الحديد) كي يتمكن من قهر الباطل وإجباره على الرضوخ للإرادة الإلهية وكذا الدولة والنظام السياسي الذي يستند في مرجعيته إلى الثقلين كتاب الله والعترة الطاهرة.
إنها ترجمة عملية وواقعية للقرآن الكريم عبر تنزيل مفاهيمه في أرض الواقع لئلا يبقى الناس في مرية من دينهم.
أحد أهم هذه المفاهيم هي الوقوف في وجه الظلم والاستكبار أيا كان شعاره أو جنسيته (فالثورة الاسلامية المجيدة حصيلة جهد ملايين الناس الأجلاء وآلاف الشهداء الخالدين والمعاقين الأعزاء، هؤلاء الشهداء الاحياء، والتي هي أمل ملايين المسلمين والمستضعفين في العالم – تبلغ حداً بحيث لا يحيط بتقييمها قلم او بيان). وصية الإمام الراحل.
الحرب بين الحق والباطل لم تكن وليدة الأمس القريب فهي قائمة منذ بعثة النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأججها مجرمو بني أمية والعباسيون والسلاجقة من بعدهم سعيا لإطفاء نور الله الذي حمله الأئمة من آل محمد –كما وصفها السيد علي الخامنئي في كلام مذاع يوم 7-9-2025- فقيه الأمة المعاصر وولي أمرها هُزم فيها هؤلاء الأوباش وانتكث فتلهم وكان تدميرهم في تدبيرهم بسبب غبائهم واستعجالهم واستعلائهم ظنا منهم أن الدنيا دانت لهم وأن الحق بأيديهم وأن بوسعهم تحقيق انتصار بعيد المدى وهاهي دولة الإسلام قائمة الآن انطلاقا من خراسان وصولا إلى قلب العالم المعاصر.
دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا * وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) الفرقان 23-26.
لا يستغني معسكر الحق عن قيادة تنظم أمر الأمة وترشدها إلى صراط الله المستقيم فالرائد لا يكذب أهله وكما يقول الإمام علي عليه السلام (الْحَمْدُ لِلَّهِ النَّاشِرِ فِي الْخَلْقِ فَضْلَهُ وَالْبَاسِطِ فِيهِمْ بِالْجُودِ يَدَهُ نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً وَبِذِكْرِهِ نَاطِقاً فَأَدَّى أَمِيناً وَمَضَى رَشِيداً وَخَلَّفَ فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَلَامِ بَطِيءُ الْقِيَامِ سَرِيعٌ إِذَا قَامَ فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَكُمْ وَ أَشَرْتُمْ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِكُمْ جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ حَتَّى يُطْلِعَ اللَّهُ لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ وَيَضُمُّ نَشْرَكُمْ فَلَا تَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مُقْبِلٍ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ مُدْبِرٍ فَإِنَّ الْمُدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلَّ بِهِ إِحْدَى قَائِمَتَيْهِ وَتَثْبُتَ الْأُخْرَى فَتَرْجِعَا حَتَّى تَثْبُتَا جَمِيعاً أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللَّهِ فِيكُمُ الصَّنَائِعُ وَ أَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ).
فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَلَامِ بَطِيءُ الْقِيَامِ سَرِيعٌ إِذَا قَامَ.
أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللَّهِ فِيكُمُ الصَّنَائِعُ وَ أَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ.
دكتور أحمد راسم النفيس
المنصورة مصر
16/05/2025
[1] جاء يوم القيامة صفر اليدين من تعاليم القرآن وأحكامه.
[2] خطبة 176 نهج البلاغة.
[3] خطبة 18 نهج البلاغة.
[4] البقرة 1-3.
[5] الإسراء9.
[6] الفرقان 30.
[7] الفرقان 31.
[8] نهج البلاغة خطبة 34.
[9] نهج البلاغة خطبة 125.
[10] النجم 39-40.
[11] الأعراف 175-176.
[12] البقرة 79.
[13] يوسف 76.
[14] العنكبوت 43.
[15] فاطر 28.
[16] آل عمران 79.
[17] المائدة 44.
[18] التوبة 119.
[19] البقرة 97.
[20] البقرة 174-176.
[21] آل عمران 187.
[22] خطبة 104 نهج البلاغة.
[23] آل عمران 79-80.
[24] الدخان 32-33.
[25] الجاثية 23.
[26] الأحزاب 23.
[27] النور 36-38.
[28] الحديد 25.
Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *