عنوان البحث : الامة المقاومة وتنمية أليات المواجهة
بحث مقدم من الباحث م. د مهدي محمد موسى
قسم علوم القرآن /كلية الآداب/ جامعة الامام جعفر الصادق (عليه السلام)
المحور: خصائص الأمة المقاومة وأليات المواجهة ,للعام (2025)
الملخص:
يهدف هذا البحث إلى استكشاف مفهوم “الأمة المقاومة” من خلال تحليل مفصل لدور الأمة الإسلامية في مواجهة التحديات المعاصرة. تبدأ الدراسة بتعريف مفهوم الأمة في القرآن الكريم والسنة النبوية، مع التأكيد على أهمية المقاومة كعنصر أساسي في فكر الأمة. يناقش البحث التحديات المتعددة التي تواجه الأمة الإسلامية في العصر الحديث، من التدخلات الاستعمارية إلى الهيمنة الثقافية والاقتصادية، وكيفية توظيف الأمة لآليات المواجهة الثقافية والفكرية والسياسية.
في المبحث الأول، يُعرض مفهوم الأمة في الإسلام كأمة وسطية تسعى لتحقيق العدل والتعاون بين أفرادها. كما يتم التأكيد على دور الأمة في مواجهة الفتن والتحديات الداخلية والخارجية، مستندة إلى المبادئ القرآنية والسنة النبوية. في المبحث الثاني، يتم التركيز على آليات المواجهة اللازمة للتعامل مع التحديات الحالية، بما في ذلك بناء خطاب ثقافي إسلامي يواجه الغزو الثقافي، وتفعيل الأنظمة السياسية والاجتماعية لتحقيق العدالة والتضامن. كما يتم تحليل كيفية استخدام القوة السياسية والاجتماعية لتحرير الأمة من الهيمنة والاستبداد.
أما في المبحث الثالث، فيتم تسليط الضوء على دور الأمة في النهوض الحضاري من خلال توظيف قيمها الإسلامية لتحقيق العدالة والمساواة في المجتمع العالمي. يناقش البحث أيضًا أهمية النهوض بالاقتصاد الإسلامي وتعزيز الهوية الثقافية لتفعيل دور الأمة في مجابهة التحديات المعاصرة.
ختامًا، يؤكد البحث على أن الأمة الإسلامية تمتلك القدرة على مواجهة تحدياتها من خلال تفعيل آليات المواجهة الثقافية والسياسية والاجتماعية، وهو ما يستدعي تجديد الفكر والإصلاح الشامل للنظم السياسية. يخلص البحث إلى ضرورة تعزيز الوحدة والتضامن بين أفراد الأمة وتفعيل دورها في البناء الحضاري.
Abstract
This research aims to explore the concept of the “resistant nation” by providing a detailed analysis of the role of the Islamic nation in confronting contemporary challenges. The study begins by defining the concept of the nation in the Qur’an and the Sunnah, emphasizing the importance of resistance as a fundamental element of the nation’s ideology. The research discusses the various challenges faced by the Islamic nation in the modern era, ranging from colonial interventions to cultural and economic dominance, and examines how the nation can employ cultural, intellectual, and political mechanisms for confrontation.
In the first chapter, the concept of the nation in Islam is presented as a moderate nation striving for justice and cooperation among its members. The research also stresses the role of the nation in confronting internal and external strife, drawing on Qur’anic principles and the Sunnah. In the second chapter, the necessary mechanisms of confrontation to address current challenges are highlighted, including the establishment of an Islamic cultural discourse to resist cultural invasion and the activation of political and social systems to achieve justice and solidarity. The research also analyzes the use of political and social power to liberate the nation from hegemony and oppression.
The third chapter focuses on the role of the nation in civilizational renaissance, utilizing Islamic values to promote justice and equality in the global community. The study also discusses the importance of advancing the Islamic economy and enhancing cultural identity to strengthen the nation’s role in facing contemporary challenges.
Finally, the research emphasizes that the Islamic nation has the potential to confront its challenges by activating cultural, political, and social mechanisms, which requires renewing thought and comprehensive reform of political systems. The study concludes by calling for the enhancement of unity and solidarity among the members of the nation and the activation of their role in civilizational construction.
الكلمات المفتاحية:
الأمة – المقاومة – الوعي – الهوية – المواجهة – التحديات – الاستعمار – النهضة – الآليات – الرسالة – التحرر – الصراع الحضاري.
المقدمة
تعيش الأمة الإسلامية في ظل تحدياتٍ متشابكة تعصف بكيانها الحضاري، وتستهدف عناصر وعيها وهويتها وموقعها في العالم. وفي خضم هذا الواقع المأزوم، يبرز مفهوم “الأمة المقاومة” كخيار وجودي يفرض نفسه على الشعوب الساعية إلى التحرر واستعادة مكانتها. فالمقاومة لم تعد مجرّد فعل دفاعي عسكري، بل تحوّلت إلى رؤية شاملة تستبطن الوعي وتنهض على أسس فكرية وثقافية وسياسية عميقة.
ويأتي هذا البحث ليسلّط الضوء على الأسس التي تقوم عليها الأمة المقاومة، من خلال تحليل البُعد القرآني لمفهوم الأمة، واستعراض تجليات المقاومة كحالة حضارية لا تُختزل في البعد المادي أو المسلّح. كما يسعى البحث إلى بيان أهم آليات المواجهة الفكرية والسياسية والاجتماعية التي يجب أن تعتمدها الأمة في سياق معركة الوعي والتحرر، مستعينًا بالنصوص الإسلامية وتجارب الأمم في التاريخ الإسلامي.
تنطلق أهمية البحث من كونه يعيد توجيه النظر إلى مشروع الأمة من زاوية فكرية استراتيجية، تتجاوز الانفعالات المرحلية إلى رؤية بنائية شاملة. وتعتمد منهجية البحث على الوصف والتحليل والاستقراء والاستناد إلى النصوص الدينية والتجارب الواقعية.
وسيعالج البحث الموضوع وفق الخطة الآتية:
المبحث الأول: الأمة المقاومة وأسس بنائها
المبحث الثاني: تنمية آليات المواجهة في واقع الأمة
المبحث الأول: الأمة المقاومة وأسس بنائها
المطلب الأول: تعريف الأمة في المنظور القرآني والفكري
يتّضح من السياق القرآني أنّ “الأمة” ليست مجرد جماعة بشرية تشترك في اللغة أو العِرق أو الإقليم، بل هي جماعة ترتبط برؤية مشتركة ورسالة سامية. فقد استخدم القرآن الكريم مصطلح “الأمة” بعدّة دلالات، منها ما هو عام كقوله تعالى:
﴿وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم﴾ [الأنعام: 38]،
ومنها ما هو خاص يدل على الجماعة المؤمنة المكلّفة برسالة، كما في قوله تعالى:
﴿إن هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾ [الأنبياء: 92].
ومن الناحية الفكرية، يُنظر إلى الأمة بوصفها كيانًا حضاريًا يحمل مشروعًا تاريخيًا، يتجاوز اللحظة السياسية الراهنة، ويستند إلى رؤية للوجود والإنسان والمصير. وقد عبّر المفكر مالك بن نبي عن ذلك بقوله: “الأمة هي التي تملك قابلية الحضارة”، أي أن قيام الأمة لا يكون إلا إذا اجتمع لديها الوعي بالرسالة، والإرادة المجتمعية، والإطار الثقافي الذي يربط الأفراد بمشروع مشترك.
إن هذا التصور يجعل الأمة الإسلامية – حين ترتبط بالقرآن وسنة النبي – أمة متميزة لا في بعدها الجغرافي فقط، بل في مضمونها الرسالي، فهي “خير أمة أُخرجت للناس” [آل عمران: 110]، لما تحمله من وعي وهداية وقيادة.
المطلب الثاني: مفهوم المقاومة في السياق الديني والسياسي
تُعدّ “المقاومة” أحد المفاهيم المركزية التي ارتبطت بمسيرة الأنبياء والصالحين عبر التاريخ، فهي ليست وليدة الحروب الحديثة فحسب، بل تمتد جذورها إلى الوعي الإيماني. فالمقاومة في الأصل هي تعبير عن الرفض الواعي للانحراف والظلم والطغيان، وقد مثّل الأنبياء أولى صور المقاومة الفكرية والسياسية والاجتماعية، بدءًا من مقاومة إبراهيم عليه السلام للوثنية، إلى مقاومة موسى لفرعون، وصولاً إلى مواجهة النبي محمد صلى الله عليه وآله للجاهلية القرشية.
في السياق الديني، تتخذ المقاومة بعدًا تكليفيًا، فهي واجب شرعي في مواجهة الظلم والاستكبار، كما ورد في قوله تعالى:
﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين﴾ [النساء: 75].
وفي روايات أهل البيت عليهم السلام نجد تأكيدًا على أن “الساكت عن الحق شيطان أخرس”، ما يربط المقاومة بواجب النطق بالحق والفعل الإيجابي.
أما في السياق السياسي، فقد تطوّر مفهوم المقاومة ليشمل مجالات أوسع: مقاومة الاحتلال، مقاومة التبعية، مقاومة الفساد، ومقاومة الهيمنة الثقافية. وقد شهد التاريخ الإسلامي نماذج متعددة للأمة المقاومة، من ثورات الامام الحسين عليه السلام، إلى حركات التحرر من الاستعمار في العصر الحديث.
وبالتالي، فالمقاومة ليست سلوكًا ظرفيًا، بل هي استراتيجية وجودية تتصل بجوهر الأمة، وتعبّر عن قدرتها على الدفاع عن كيانها وهويتها.
المطلب الثالث: مقومات بناء الأمة المقاومة
لكي تتجسد الأمة المقاومة واقعًا، لا بد من توفر جملة من المقومات الأساسية التي تشكّل بنيتها الفكرية والعملية، ويمكن تلخيصها في الآتي:
- الوعي الرسالي
يمثّل الوعي الرسالي ركيزة أساسية في بناء الفرد الرسالي الذي يحمل همّ الرسالة ويفهم أبعادها وشروطها وغاياتها، وهو وعيٌ يتجاوز المعرفة السطحية ليصل إلى الفهم العميق للدين كمشروع حضاري يسعى إلى إصلاح الإنسان والمجتمع. في هذا البحث المقتضب نسلّط الضوء على مفهوم الوعي الرسالي، وأهميته، وخصائصه، وآثاره في مسيرة الأمة.
فهو إدراك شامل لمضامين الرسالة الإلهية، وفهمٌ عميق لمسؤوليات الإنسان في ضوء تلك الرسالة، بما يشمل البُعد العقائدي، والأخلاقي، والاجتماعي. فالرسالي ليس مجرد متدين، بل هو إنسان يعيش قيم الرسالة ويعمل على نشرها وتفعيلها في الواقع. قال الإمام علي عليه السلام: “ألا لا خير في علمٍ لا يُنفَع، ولا في قولٍ لا يُسمَع، ولا في قلبٍ لا يَخْشَع.” (نهج البلاغة، الحكمة 109).
وتكمن أهمية الوعي الرسالي في تحصين الأمة من الانحراف: لأن الجهل بالرسالة يجعل المجتمعات فريسة للتيارات الفكرية والدينية المنحرفة.
ومواجهة الاستلاب الثقافي: فالرسالي الواعي يقاوم الذوبان في الآخر عبر فكرٍ أصيل ونقدٍ بنّاء.
تحفيز العمل الإصلاحي: حيث يُشكّل الوعي دافعًا للحركة والبناء وتغيير الواقع، مصداقًا لقوله تعالى:
“إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد: 11).
بعض من خصائص الوعي الرسالي
العمق لا السطحية: لا يكتفي بالمظاهر بل يغوص في جوهر الدين.
التحرّك الواعي: لا ينطلق من ردّات فعل عاطفية بل من فهمٍ وتحليل.
الارتباط بالواقع: يستند إلى فقه الواقع دون الانعزال عن المجتمع.
الانفتاح والنقد: يعترف بالخطأ ويقيّم التجربة باستمرار.
نشوء نُخَب إصلاحية تحمل المشروع الرسالي. وتعزيز روح المقاومة والكرامة في مواجهة الاستبداد والاحتلال.
وبناء مشروع حضاري بديل متكامل الأبعاد، كما أشار لذلك المفكر محمد باقر الصدر في كتابه “الإسلام يقود الحياة”، حيث اعتبر أن “الوعي الرسالي شرط أساسي لقيادة الأمة وتحديد معالم النهضة”.
ويبقى الوعي الرسالي ليس حالة ذهنية فقط، بل مشروع تربية وتغيير، يهدف إلى إعادة صياغة الإنسان وفق منهج الرسالة، ويُعد من أبرز شروط النهضة الحقيقية. ومن دون هذا الوعي، تبقى الأمة في حالة تخلّف وتبعية، وإن رفعت شعارات دينية.
2. الهوية الثقافية الأصيلة
تستمد الأمة المقاومة قوتها من تماسكها الثقافي، المستند إلى القرآن والسنة والتراث الحي. وكلما ازدادت ارتباطًا بهويتها، ازدادت مناعتها تجاه الغزو الفكري والثقافي.
3. الإرادة المستقلة:
الإرادة المستقلة تعني قدرة الفرد أو الجماعة أو الدولة على اتخاذ القرارات بمعزل عن التبعية الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية. ويتجلى هذا المفهوم في امتلاك الرؤية، وتحرير الوعي، والانطلاق من مبادئ نابعة من الذات الحضارية.
تمثل الإرادة المستقلة جوهر السيادة والحرية، سواء على مستوى الأفراد أو الأمم. إنها التعبير العملي عن الوعي بالذات، والقدرة على اتخاذ القرار بعيداً عن الهيمنة الخارجية أو الضغوط الداخلية. في ظل التحديات السياسية والاقتصادية المعاصرة، تغدو الإرادة المستقلة عنصراً حاسماً في بقاء الأمم، وتحقيق نهضتها.
لقد شدد القرآن الكريم والسنة النبوية على قيمة الاستقلال في الفكر والسلوك. فقد ورد في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ [الأنعام: 57]، تأكيد على وضوح الرؤية واتخاذ الموقف النابع من الإيمان والمعرفة، لا من التقليد الأعمى أو التبعية.
ولا يكفي الوعي من دون إرادة، فالإرادة هي المحرك للتغيير، هي التي تجعل الأمة تقرر مصيرها بنفسها. ولقد أكّد القرآن على مركزية الإرادة في قوله:
﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ [الرعد: 11].
مظاهر وتجليات الإرادة المستقلة
1. الاستقلال السياسي
يتجلى في رفض التبعية للقوى الخارجية، وتقرير المصير الوطني وفق المصلحة العليا. أمثلة ذلك: تجارب حركات التحرر في العالم العربي والإسلامي في القرن العشرين.
2. الاستقلال الاقتصادي
لا يمكن للإرادة المستقلة أن تُمارس دون بناء اقتصاد منتج مستقل عن الهيمنة المالية العالمية، وهذا ما يؤكده المفكر مالك بن نبي حين قال: “التحرر الاقتصادي جزء لا يتجزأ من الاستقلال الحضاري.”
3. الاستقلال الثقافي والمعرفي
يتطلب إعادة الاعتبار للثقافة الأصلية، وتحرير العقل من استلاب النماذج الغربية المفروضة. المفكر محمد عمارة اعتبر أن التبعية تبدأ من العقل، قبل أن تنتقل إلى السياسة والاقتصاد.
4. التنظيم الاجتماعي والسياسي
لكي تكون المقاومة مؤثرة، لا بد أن تتجسد في بنيات تنظيمية متماسكة، تشمل الأحزاب والحركات والمؤسسات، بما يسمح بتوجيه الفعل الجماعي نحو أهداف واضحة.
5. القيادة الواعية
تلعب القيادة دورًا حاسمًا في توجيه الأمة، كما تجلّى ذلك في قيادة النبي، والأئمة، وقادة المقاومة المعاصرة. فالقيادة الواعية لا تساوم على القيم، بل تخلق التوازن بين المبادئ والمصالح.
المطلب الرابع: نماذج تاريخية للأمة المقاومة في التراث الإسلامي
شهد التاريخ الإسلامي نماذج ملهمة لأمم مقاومة لم تنكسر رغم التحديات الكبرى، ومن أبرزها:
1. أمة النبي محمد (ص) في مكة والمدينة
حيث مثّل المسلمون نواة الأمة المقاومة، بدءًا من رفضهم للوثنية، وتحمّلهم الأذى، وصولاً إلى تأسيس دولتهم في المدينة. كانت هذه الأمة نموذجًا في الصبر والبناء المتدرج، والمقاومة الفكرية والسياسية.
2. ثورة الإمام الحسين عليه السلام
مثّلت ذروة الوعي المقاوم، حيث رفض الإمام الانخراط في منظومة الظلم، واختار المواجهة رغم قلّة العدد. وأصبحت كربلاء رمزًا دائمًا للمقاومة والكرامة.
3. الحركات التحررية ضد الاستعمار الحديث
في العصر الحديث، برزت حركات مقاومة كبرى في الجزائر، فلسطين، إيران، والعراق، مثّلت استئنافًا لمشروع الأمة في وجه التغريب والهيمنة. وتميّزت هذه الحركات بربطها بين الإيمان والعمل، بين العقيدة والسياسة.
المطلب الأول: تعريف الأمة في المنظور القرآني والفكري :
جاءت كلمة “أمة” في القرآن الكريم في أكثر من موضع تجاوز الثلاثين، بدلالات متنوعة تعكس الغنى المفهومي لهذا المصطلح. ففي قوله تعالى:
﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92]،
يتجلى البُعد التوحيدي في مفهوم الأمة، بوصفها جماعة مرتبطة بعقيدة ورسالة وقيادة ربانية.
ويرى المفسرون، مثل الإمام الطبري، أن “الأمة” هنا تعني: “جماعة المؤمنين الذين اجتمعوا على التوحيد والطاعة”. ويُؤكّد الفخر الرازي في تفسيره أن “الأمة في هذا السياق تعني الوحدة في الهدف والمرجع، لا في الشكل أو القومية”.
أما من الناحية الفكرية، فيذهب مالك بن نبي إلى أن الأمة هي: “الكيان الذي يولد عندما تبدأ الأفكار في التأثير على المجتمع”، وهي ليست مجموع أفراد بل مجموع وعي. ويرى أن الفرق بين المجتمع القابل للحضارة وغير القابل لها، يكمن في “قابليته لأن يُنظَّم ضمن فكرة مركزية توجّه السلوك الجماعي”.
وبذلك، فإن الأمة وفق القرآن والرؤية الفكرية ليست تجمّعًا قبليًا أو قوميًا، بل هي بنية معرفية ورسالية متكاملة، يُنتجها الإيمان المشترك والهدف الموحد.
المطلب الثاني: مفهوم المقاومة في السياق الديني والسياسي (موسع مع توثيق)
المقاومة في النص القرآني ترتبط أولًا بموقف الأنبياء من الاستكبار، حيث قال تعالى:
﴿قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِۦ لَنُخْرِجَنَّكَ يَٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا﴾ [الأعراف: 88]،
فكان رد شعيب مقاومًا: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَٰرِهِينَ﴾.
هذه المواجهة تمثّل فعلًا مقاومًا في بعده العقدي والواقعي، وهو ما نراه في سيرة النبي محمد (ص) حين واجه قريش رغم الحصار والإيذاء، ورفض العروض المادية مقابل التنازل عن دعوته، كما في حديثه المشهور لعمه:
“والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه” (السيرة النبوية، ابن هشام، ج1، ص265).
وفي الفكر الإسلامي الحديث، يرى الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن المقاومة “حق مشروع بل واجب شرعي في مواجهة الاحتلال والظلم، سواء أكان أجنبيًا أم محليًا”، وهو رأي شاركه فيه الإمام الخميني الذي جعل من “المقاومة الثقافية والسياسية واجبًا متوازيًا مع المقاومة المسلحة”.
أما سياسيًا، فقد تعرّفت الشعوب الإسلامية على أن المقاومة تمثّل الطريق الوحيد للاستقلال، كما حصل في الثورة الجزائرية (1954–1962)، التي ربطت بين البعد الوطني والبعد الإسلامي، وشكّلت واحدة من أعظم تجارب الأمة المقاومة في العصر الحديث.
المطلب الثالث: مقومات بناء الأمة المقاومة (موسع مع شواهد)
1. الوعي الرسالي
قال تعالى:
﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]،
والخيرية هنا مشروطة بالرسالة: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾.
فالأمة التي تفقد وعيها برسالتها لا تكون خير أمة، بل تتحول إلى كتلة بشرية خاوية.
2. الهوية الثقافية الأصيلة
الهجوم الثقافي على الأمة كان وما يزال وسيلة لإسقاطها. يقول المفكر عبد الوهاب المسيري: “الهيمنة تبدأ من العقل، فإذا استطاع العدو أن يُدخل في عقلك تصوّره، فهو لا يحتاج إلى جندي”.
3. الإرادة المستقلة
قول الله تعالى:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]
يركّز على المسؤولية الذاتية، فالإرادة الحرة هي شرط التحول، والمقاومة لا تصدر عن شعوب مستسلمة أو منهزمة نفسيًا.
4. التنظيم الاجتماعي والسياسي
لقد أثبت التاريخ أن الحركات المقاومة التي تملك تنظيمًا متماسكًا قادرة على الصمود أكثر، كما في نموذج حزب الله في لبنان، حيث استطاعت بنية التنظيم أن تواجه آلة الحرب الإسرائيلية عام 2006.
5. القيادة الواعية
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام:
“لا يصلح الناس إلا بإمام، برٍّ أو فاجر” (نهج البلاغة، الحكمة 146)،
فالقيادة ضرورية لتنظيم الوعي وتحويله إلى فعل. وقد مثّل الإمام الخميني، والسيد حسن نصر الله، نموذجًا للقيادة المقاومة التي جمعت بين الفقه والرؤية السياسية.
المطلب الرابع: نماذج تاريخية للأمة المقاومة في التراث الإسلامي (موسع مع مصادر)
1. النموذج النبوي
دولة المدينة التي أسسها النبي (ص) جمعت بين الجهاد، والتعليم، وبناء نظام سياسي واقتصادي مستقل. وقد وصفها العلامة محمد باقر الصدر بأنها “أول دولة للمستضعفين في التاريخ”. (من كتاب المدرسة الإسلامية)
2. ثورة الإمام الحسين (ع)
قال عليه السلام:
“إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي” (تحف العقول، ص245).
هذه الثورة تمثل النمط الأقصى للمقاومة، حيث يُضحّى بالحياة من أجل حفظ كرامة الأمة.
3. ثورة التحرر الجزائرية
كتب مالك بن نبي: “الثورة الجزائرية لم تكن فقط ضد الاستعمار الفرنسي، بل ضد قابلية الأمة للاستعمار” (شروط النهضة).
أكثر من مليون شهيد سقطوا من أجل الكرامة، مما جعل الجزائر تُلقّب بـ”بلد المليون ونصف المليون شهيد”.
المبحث الثاني: تنمية آليات المواجهة في واقع الأمة
المطلب الأول: التحديات المعاصرة التي تواجه الأمة
تواجه الأمة الإسلامية اليوم مجموعة من التحديات البنيوية التي تهدد وجودها وفاعليتها، وتُضعف قدرتها على النهوض، من أبرزها:
1. التبعية السياسية والاستبداد المحلي
الكثير من الدول الإسلامية خاضعة للقرارات الدولية والإملاءات الأجنبية، مما أضعف قرارها السيادي. يقول المفكر جورج قرم: “المأساة العربية تكمن في أن الاستقلال السياسي لم يُترجم إلى استقلال فعلي”.
2. الهيمنة الثقافية والإعلامية
يُمارَس على الأمة غزو فكري من خلال المنظومات الإعلامية، التي تسعى إلى تفكيك الهوية واستبدال المرجعية الدينية والعقلية بقيم الاستهلاك والعلمنة. وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحرب الناعمة بقوله:
﴿ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً﴾ [النساء: 89].
3. التفكك الداخلي والطائفية
إن انقسام الأمة على أسس طائفية ومناطقية وإثنية جعلها عاجزة عن الاتفاق على قضايا مصيرية، بل أصبحت أدوات بيد الخارج، مما يعمّق النزاعات. قال أمير المؤمنين (ع):
“اجتمعوا على باطلهم وتفرّقتم عن حقّكم” (نهج البلاغة، الخطبة 25).
4. الاقتصاد الريعي والتبعية الاقتصادية
ترتبط كثير من الدول الإسلامية بنظام اقتصادي استهلاكي غير منتج، يعتمد على الخارج في غذائه وسلاحه وتقنيته، مما يجعل المواجهة مشلولة في لحظة الضغط أو الحصار.
المطلب الثاني: آليات المواجهة الثقافية والفكرية
1. إحياء الوعي التاريخي والحضاري
لا يمكن لأمة أن تنهض دون أن تتصالح مع تاريخها وتنظر إليه بوصفه مصدرًا للعبرة والتجديد. يقول الله تعالى:
﴿قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا﴾ [آل عمران: 137]،
وهذا دليل على أن دراسة التاريخ سنّة قرآنية لمراكمة الوعي والقدرة.
2. تحرير العقل من التبعية
العقل الإسلامي يعاني من اغتراب منهجي، حيث يُقلّد الآخر أو ينغلق على نفسه. والمطلوب عقل مقاوم، نقدي، واعٍ، قادر على الإنتاج. يقول محمد عبده: “ما خُلق العقل ليُعبد، بل ليُستعمل”.
3. الإعلام المقاوم
يُعد الإعلام اليوم سلاحًا، وقد استخدمته قوى الهيمنة لتزييف الوعي، لذلك فإن الاستثمار في إعلام هادف (مثل تجربة قناة المنار أو الجزيرة الوثائقية في بعض جوانبها) يعد أداة مركزية في المعركة.
4. إعادة بناء المناهج التربوية
مناهج التعليم في كثير من البلاد الإسلامية لا تزرع قيم المقاومة والهوية، بل تغرس ثقافة الخضوع، وهو ما يتطلّب ثورة تربوية لإعادة تشكيل وعي الأجيال.
المطلب الثالث: آليات المواجهة السياسية والاجتماعية
1. بناء الوعي السياسي الشعبي
العمل السياسي في الأمة يجب أن يكون منطلقًا من الوعي بالمسؤولية، لا من الانفعالات. يقول الإمام علي (ع):
“واعلموا أنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم” (نهج البلاغة، الخطبة 167)،
والمواطنة في الإسلام مسؤولية لا تبعية.
2. دعم حركات التحرر والمقاومة
الأمة المقاومة لا تقف على الحياد تجاه الشعوب المستضعفة، بل تساند حركات التحرر، كما في دعم قضايا فلسطين، اليمن، العراق، وغيرها.
3. بناء الدولة العادلة
إن بناء الدولة العادلة هو هدف مشترك تسعى اليه المجتمعات المتحضرة لتحقيق الأمن والكرامة والمساواة بين المواطنين فالدولة العادلة لاتبني على السلطة وحدها بل على مبادى دستورية وقيم اخلاقية وعدالة قانونية تجعلها قادرة على تحقيق السلم المجتمعي والتنمية المستدامة .
إن أحد أخطر معوقات المقاومة هو الظلم الداخلي، ولذلك فإن إقامة دولة العدل والقانون على أساس الشورى والحرية والكرامة، هو شرط أساسي للنهوض. قال تعالى:
﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ [النحل: 90].
4. تفعيل دور المرأة والشباب
لا يمكن لأمة أن تقاوم بنصف طاقتها، بل لا بد من إشراك المرأة والشباب في مواقع القرار والبناء، عبر التأهيل والثقة وتوفير الأدوات.
المطلب الرابع: دور الأمة في صناعة النهوض والتحرر
1. الشعوب هي صانعة التغيير
قال الله تعالى:
﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾ [محمد: 7]،
وجعل النصرة فعلًا شعبيًا، يبدأ من الجماهير. فالأمة ليست مجرد تابعة للنخبة، بل فاعلة وشريكة في التغيير.
2. ضرورة وحدة الصف
يقول النبي (ص):
“المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا” (صحيح البخاري، ج1)،
وهو ما يُؤكّد أن المواجهة لا تتم إلا بجبهة واحدة، تتجاوز المذاهب والخلافات لصالح القضايا الكبرى.
3. تجارب ناجحة يمكن البناء عليها
تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران، وتجربة المقاومة في لبنان، وتجربة النهضة في تركيا وتونس (رغم تعثرها)، تمثل شواهد على أن الأمة تملك مقومات الفعل الحضاري إذا توفر لها الوعي والقيادة.
4. المشروع الحضاري الإسلامي
التحرر الحقيقي لا يتم إلا من خلال مشروع حضاري يُعيد للأمة هويتها ودورها في العالم، وهذا ما أشار إليه المفكر طه عبد الرحمن بقوله: “لا حرية بلا روح، ولا مقاومة بلا أخلاق”، ما يجعل من مشروع الأمة مشروعًا أخلاقيًا بامتياز.
أولًا: النتائج
من خلال ما طُرح في مباحث البحث ومطالبه، يمكن تلخيص أبرز النتائج كما يلي:
مفهوم الأمة المقاومة يتجاوز الفهم العسكري الضيق، ليشمل البُعد الحضاري والثقافي والسياسي، ما يجعلها مشروعًا طويل الأمد.
القرآن الكريم يربط وجود الأمة برسالتها وهويتها ووحدتها العقدية، وليس فقط بعنصر الدم أو الأرض أو اللغة، وهذا يُؤسّس لمفهوم “أمة عالمية” تتجاوز الحدود الجغرافية.
المقاومة ليست خيارًا هامشيًا بل ضرورة شرعية وعقلانية، فرضها الواقع المتحدّي، وهي تكليف إلهي ثابت في مواجهة الظلم والفساد والطغيان.
أسس بناء الأمة المقاومة تشمل الوعي، والهوية، والإرادة، والتنظيم، والقيادة الواعية، وهذه العوامل مترابطة ومتداخلة ولا يمكن الاستغناء عن أي منها.
التحديات التي تواجه الأمة مركّبة ومعقدة، تشمل الاستبداد، التبعية، التشظي، والاختراق الثقافي، ما يتطلّب مشروعًا مقاومًا متعدد الأبعاد.
آليات المواجهة الثقافية والسياسية والاجتماعية تمثل مفاتيح الاستقلال والتحرر، إذا تم اعتمادها ضمن مشروع إصلاحي شامل يعيد بناء الذات.
الشعوب هي المحور الأساسي لأي تحوّل نهضوي حقيقي، ولا يمكن لأي مشروع مقاومة أن ينجح دون حاضنة شعبية واعية وفاعلة.
ثانيًا: التوصيات
استنادًا إلى النتائج السابقة، يمكن تقديم التوصيات الآتية:
تعزيز ثقافة المقاومة في المناهج التربوية والإعلام، وربطها بالهوية والعقيدة والقيم، بدلًا من تقديمها كفعل انفعالي أو ظرفي.
بناء حواضن فكرية وثقافية للمقاومة، من خلال المراكز البحثية، والمعاهد التعليمية، وحلقات النقاش، لإنتاج خطاب مقاوم منهجي.
دعم حركات المقاومة السياسية والعسكرية في العالم الإسلامي، ماديًا ومعنويًا، والعمل على توحيدها ضمن جبهة واحدة تخدم المشروع الإسلامي.
إصلاح الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي، بحيث تكون شريكة للشعوب لا متسلطة عليها، لأن النظام العادل هو أساس بناء الأمة المقاومة.
إحياء الروح الإسلامية الأصيلة التي تربط الدين بالتحرر والكرامة والعدالة، بدلًا من التصورات المنعزلة التي تُغرق الدين في الطقوس دون الفعل.
العمل على وحدة الأمة الإسلامية في مواجهة مشاريع التفتيت والاستعمار الحديث، عبر تجاوز الخلافات المذهبية وتقديم القضايا الكبرى على الهامشيات.
قائمة المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
شروط النهضة، مالك بن نبي , دار الفكر، بيروت، ط10، 2000.
أزمة الفكر الإسلامي، محمد عمارة دار الشروق، القاهرة، 2005.
راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1993.
نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1990م.
الاسلام يقود الحياة الصدر، محمد باقر، دار التعارف، بيروت، 1982م.
الإنسان والقرآن، مطهري , مرتضى ,دار الفكر الإسلامي، طهران، 1999م.
النباهة و الاستحمار، شريعتي ,علي ترجمة إبراهيم الدسوقي، دار الأمير، بيروت، 2004م.
صحيح البخاري، محمد اسماعيل البخاري (194هـ-256هـ) دار ابن كثير, دمشق ,سوريا , طبعة ,2002.
تفسير الطبري، محمد بن جرير الطبري (ت 310 ) ,دار الكتب العلمية، بيروت .لبنان , طبعة 2001.
(مفاتيح الغيب)، الامام فخر الدين الرازي (ت 606هـ , دار الفكر.بيروت لبنان , الطبعة الاولى , 1981.
ابن هشام، السيرة النبوية، اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت.لبنان , الطبعة الاولى , سنة النشر,1976.
المدرسة الإسلامية، محمد باقر الصدر , دار التعارف. بيروت ,لبنان , سنة النشر 2011.
شروط النهضة،مالك بن الحاج عمر بن الخضر بن نبي(ت 1393 ه /1973م ) دار الفكر، الجزائر.
طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الاخلاقي للحداثة الغربية ، المركز الثقافي العربي.سنة النشر , 2000.
عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر دار الشروق,الطبعة الاولى ,2006.
الوحدة الإسلامية والمقاومة. محمد مهدي شمس الدين , مركز الدراسات والتوثيق في الجامعة الاسلامية ,بيروت ,لبنان .
انفجار المشرق العربي، جورج قرم دار الفارابي للنشر والتوزيع بيروت , لبنان , سنة النشر ,2006..
العودة إلى الذات.علي شريعتي , دار الاميرللثقافة والعلوم , بيروت و لبنان و الطبعة الاولى , سنة النشر , 2007.
الدين والكرامة الإنسانية.عبد الجبار الرفاعي ,دار الرافدين .بيروت . لبنان ,2021.
Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *